كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنّ الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له كل شيء في الوجود وطلب منه أن يعبده وحده وأن يعمر هذه الأرض. وأراد الحق أن يضمن للإنسان سلامة أشياء متعددة؛ سلامة نفسه فلا يُعتدي عليها بالقتل أو غير ذلك، وسلامة عقله فلا يُجنى عليه بما يستر آلية الاختيار بين البدائل، وسلامة عرضه فلا يَلغ فيه أحد وحتى تأتي الأنسال التي تعمر الكون وهي أنسال طاهرة، وسلامة ماله حتى يحفظ على الإنسان أثر حركته في الحياة وحتى لا يأخذ غيره أثر حركته، وذلك حتى لا يزهد العامل في العمل ولا يعود الطاقات أن تأخذ من غير عملها فتكسل وتتواكل، فالإنسان إذا ما اعتاد أن يأخذ من غير عمل صار العمل صعبًا عليه، وهكذا كانت صيانة المال لا تبدد طاقة ولا تهدر حقا، ولا تعطي غير ذي حق حقا لغيره، وهكذا حتى لا يشيع العجز الاصطناعي في الكون.
ولذلك قال الحق وهو مانح كل مال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245].
أي أنه- وهو المانح سبحانه وتعالى- قد احترم حركة الإنسان فلا يستمرئ أحد البطالة. وعندما تنتشر البطالة في الإسلام يعالج الأمر بحكمة بالغة؛ فهو يطلب من الوالي أن يسبب لهم الأسباب ليعملوا. وذلك حتى لا يتعودوا على الأخذ بغير عمل لئلا تكون مصيبة على المجتمع. وأراد سبحانه بالشريعة السمحاء أن يحمي الإنسان من كل ما يبدده، فحينما حرم الخمر، أي منع عن الإنسان ستر العقل، ذلك أن ميزة الإنسان على الحيوان هي العقل.
إن الإنسان يختلف عن الحيوان بأنه يحفظ حياته بالعقل، أما الحيوان فيحفظ حياته بالغريزة. ولذلك فالحيوان لا يملك إلا ردًا واحدًا إذا ما تم الاعتداء عليه؛ الكلب يعض المعتدي والقطة تخمش المعتدي، أما الإنسان فعندما يعتدي عليه أحد فهو يختار بين بدائل للرد على العدوان، إما أن يضرب وإما يقتل وإما أن يسامح.
ومثال لذلك نراه في الريف، عندما يحاول راكب الحمار أن يجبر الحمار على القفز على قناة صغيرة فيها مياه يرفض الحمار ذلك تمامًا ومهما ضربه راكبه فهو يرفض القفز؛ لأن غريزته تمنعه من ذلك. أما الإنسان فقد ينتابه الغرور ويظن أنه قادر على القفز فوق القناة فيقفز لكنه قد يقع في المياه. وتوجد المجازفة عند الإنسان، لكنها لا توجد عند الحيوان بمقتضى الغريزة.
ومثال آخر من عالم الحيوان. نجد ذكر الجاموس يقترب من الأنثى ليشمها فإن وجدها حاملًا لا يقربها، هكذا الحيوان. أما الإنسان فلا. والحمار يتناول طعامه من البرسيم مثلا ما يشبعه ولا يزيد أبدًا في الطعام مهما ضربه صاحبه؛ لأنه محكوم بالغريزة، أما الإنسان فقد يأكل فوق طاقته.
وهكذا نجد الغريزة هي التي تعصم الحيوان، والعقل هو الذي يعصم الإنسان. ولذلك لا يملك الحيوان القدرة على الاختيار، ولكن ميزان غرائزه لا يختل أبدًا. أما ميزان الغرائز عند الإنسان فقد يختل.
لقد ميز الله الإنسان عن الحيوان بالاختيار بين البدائل بالعقل، ولذلك لا يصح ولا يستقيم من الإنسان أن يطمس هذه القدرة بالخمر. فإن طمس قدرة الاختيار، فإن غرائزه في هذه الحالة لا تنفعه لأنها غير مؤهلة لحمايته، ولذلك نجد الذي يطمس عقله يضع نفسه في مرتبة أقل من الحيوان؛ لأن الحيوان تحميه الغريزة، والإنسان يحفظه عقله، وهو في هذه الحالة قد طمسه وغطاه، وقد حرم الله الخمر لأنها تستر العقل. وكل ما يستر العقل خمر ولو كان أصله حلالًا؛ وذلك لأن العقل هو مناط التكليف. وكذلك حرم الله الميسر.
ولنر دقة الاسم الذي اختاره الله للقمار، إنه «الميْسر» ولم يسمه «المعسر» ذلك أن أحدًا لا يقبل على الميسر وهو يظن أنه سوف يخسر، وكل من يلعبون القمار إنما يفعلون ذلك على أمل الكسب؛ لذلك جاء بالاسم الذي يعبر عن حالة اللاعب للقمار إنه يلعب على وهم الكسب، وإن كسب فالمكسب يُغْريه بالمزيد من اللعب.
والخسران يغري باللعب أكثر لعل كسبًا يعرض الخسارة التي مني بها، وقد يبيع اللاعب للميسر كل ما يملك كي يعوض خسارته ومع ذلك فالكسب من الميسر هين على النفس تبدده وتنفقه فيما لا ينفع بل قد ينفقه فيما يضر، فالمكسب ليس له والخسارة محسوبة عليه. والذين يلعبون الميسر مع بعضهم لا تربطهم صداقة أو محبة. فكل منهم حريص على أن يأخذ ما في جيب الآخر. وهذا اللون من اللعب يعطل القدرة على الكسب الحلال؛ لأن الكسب الحلال يحتاج إلى حركة في الكون. والميسر يشل حركة الكاسب لأنه يزهد في العمل. والخسران يشل حركة الخاسر لأنه مهما سعى في الأرض فقد لا يستطيع أن يسدد ديونه.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن للناس ألا ينتفع أحد بشيء إلا نتيجة كده وعمله. والحق يريد أن يكون جسد كل إنسان من ناتج عرقه في عمل مشروع وكذلك أجساد من يعول. وأبلغنا أيضًا أن الأنصاب رجس من عمل الشيطان. والأنصاب ثلاثة قداح كانت توجد عند الكاهن؛ قدْح مكتوب عليه أمرني ربي، والقدح الثاني: مكتوب عليه نهاني ربي، والقدح الثالث: غفل من الكتابة أي خال منها فلا علامة فيه. فإن كان في نية إنسان السفر أو الزواج أو التجارة فهو يذهب إلى الكاهن ليضرب له هذه القداح. فإن خرج القدح المكتوب عليه أمرني ربي فعل.
وإن خرج نهاني ربي لم يفعل. أما أن خرج القدح الغفل فهو يعيد ضرب القداح حتى يخرج أحد القدحين: إما الذي يحمل الأمر، وإما الذي يحمل النهي. ولم يتساءل أحد لماذا عندما يخرج القدح الغفل لا يعتبر أن هذا أمر خارج عن نطاق التحريم. ويؤخذ على أنه إباحة واختيار يعمل أو لا يعمل. لقد أنساهم الحق ذلك حتى يدلنا على أن ذلك أمر كاذب جاء به الكهنة من عندهم. فإن سألهم سائل: من الإله الذي أمر ونهى؟ هنا يقول القائل منهم: الله هو الذي أمر وهو الذي نهى. {والله يعلم إنهم لكاذبون}.
والحق سبحانه وتعالى حين ينهانا عن تلك الأمور فهو يريد للإنسان أن ينمي ملكة الاختيار بين البدائل. وعلى الإنسان أن يستنبط وأن يحلل وأن يعرف المقدمات فيدرسها ويحلل الخطوات ليصل إلى النتائج. لا أن يعطل القوة المدركة التي تختار بين البديلات، فالخمر تستر العقل، وكذلك الميسر يضع الإنسان بين فكي الوهم، وكذلك الأنصاب تعطل القدرة على السعي والرضوخ للكهنة. وعندما تسأل شارب الخمر: لماذا تشربها؟ يجيب: إنني أريد أن أستر همومي. وستر الهموم.
لا يعني إنهاءها. ولكن مواجهة الهموم هي التي تنهي الهموم بالأسباب المتاحة للإنسان. فإن لم تقو أسبابك فالجأ إلى المسبب في إطار قول الحق: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
وعندما تستنفد أسبابك وتلجأ إلى الله فهو يعينك على الأمر الشاق المسبب للهموم. ولنا في الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة. فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى «حزبه» أي خرج عن نطاق أسبابه. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى رب الأسباب. وقد نجد من يقول: إنني أدعو الله كثيرًا ولكنه لا يستجيب لي.
ونقول: إما لأنك قد دعوت في غير اضطرار، وإما لأنك لم تلفت إلى الأسباب، وأنت حين تتجنب الأسباب فأنت ترفض يد الله الممدودة لك بالأسباب. وأنا أتحدى أن يوجد مضطر أنهى الأسباب، ولا يأتي له الفرج. وأنت حين تدعو بحاجة وتتأخر عليك، نقول لك: إنك دعوت بغير اضطرار.
وكثيرًا ما أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى المنزه دائمًا- وأقول: هب أن تاجرًا من تجار الجملة الكبار يجلس أمام المخازن التي يملكها وجاءت السيارات الشاحنة بصناديق بضائعه. والعمال يحملون البضائع ليضعوها في المخازن. وفجأة رأى عاملًا من عماله يكاد يقع بالصندوق الذي يحمله، هنا نجد التاجر يهب بلا شعور لنجدة العامل. فما بالنا بالحق الذي خلق لنا الأسباب؟ إنك إن استنفدت الأسباب فإن الله يعينك مصداقًا لقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62].
إذن فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. والأزلام هي نوع من الميسر؛ فقد كانوا يحضرون الناقة أو الجزور ويذبحونها ويقسمونها إلى ثمانية وعشرين قسمًا ويخصصون لإنسان نصيبًا وللثاني نصيبين وللثالث ثلاثة أنصبة، وللرابع أربعة أنصبة وللخامس خمسة أنصبة، وللسادس ستة أنصبة، والسابع له سبعة أنصبة. وكانوا يأتون بالقِداح السبعة. قدح اسمه «الفذ» ويأخذ الفائز به نصيبًا، والقدح الثاني: «التوأم» ويأخذ نصيبين، والقدح الثالث اسمه «الرقيب» يأخذ ثلاثة. والقدح الرابع اسمه «المُسْبِل» ويأخذ ستة. والسابع اسمه «المُعَلَّى» ويأخذ سبعة أنصبة. وهناك ثلاثة قداح هي المنيح والسفيح والوَغْد، وهؤلاء الثلاثة لا يأخذون شيئا بل يدفعون ثمن الذبيحة. وذلك رجس من عمل الشيطان.
إن النفس العاقلة لا تقبل على مثل هذه الأعمال، بل لابد أن يحرك أحد تلك الأطماع، ذلك أن المخالفات إنما تنشأ من أمرين؛ إما أن تكون من النفس، وإما أن تكون من الشيطان. والمخالفة التي تكون من النفس هي التي تحقق شهوة من نوع خاص بحيث إذا زحزحت النفس عنها فهي تريدها. والمخالفة التي من نزغ الشيطان تختلف، فقد يوعز الشيطان لإنسان بالسرقة، فيرفض، فيعرف الشيطان أن لهذا الإنسان مناعة ضد هذه المعصية، فيوعز بمعصية أخرى، فإذا وجد مناعة انتقل إلى معصية ثالثة؛ لأن وسوسة الشيطان تطلب الإنسان عاصيًا على أي لون من الألوان.
فإذا وقفت عند معصية بذاتها فاعلم أن ذلك من عمل نفسك، وإن انتقلت بالوسوسة من معصية عزت على الشيطان إلى معصية أخرى فاعلم أنها من عمل الشيطان ولا دخل للنفس بها. والعاقل الذي يتمعن في كل تلك المسائل المحرمة يرى أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هي أمور لا تستطيبها النفس غير المنزوعة من الشيطان، فكأن قوله الحق: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} يدلنا على أن العاقل لا يمكن أن يصنع هذه الأشياء.
ويذيل الحق الآية: {فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ويأمرنا سبحانه باجتناب الرجس الذي جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، والاجتناب هو أن يعطي الإنسان الشيء المجْتَنَب جانَبَه، أي المنع للذرائع والأسباب والسد لها؛ لأنك إن لم تجتنبها فمن الجائز أن قربك منها يغريك بارتكابها. وبعض الناس يظنون أن الخمر لم يأت لها تحريم وإنما جاء الأمر فيها بالاجتناب.
ونقول لهم: إن التحريم هو النص بعدم احتسائها، وأما الاجتناب فهو أقوى من التحريم لأنه أمر بعدم الوجود في مكانها. فإذا كان الحق قد قال في قمة العقائد: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30].
فقد قال هنا اجتنبوا الرجس الذي يجمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. والحق سبحانه وتعالى واجه العادات التي شاعت قبل الإسلام ليخلع الفاسد منها ولم يجابهها دفعة واحدة وذلك لتعليق النفس بها والإلف لها، وإنما كان التحريم لها بالتدريج. لقد حزم الإسلام الأمر أولًا في مسائل العقائد، أما الأمور التي تترتب على إلف العادة فكان تحريمها على مراحل.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى عن شيء إنه: «رجس»، فذلك حكم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ونحن نقبل هذا الحكم حتى ولو لم نفهم نحن معنى الرجس، أو لم نتأكد ماديًا من أن الشيء المحرم هو من الرجس، ذلك أنه يكفي في ذلك حكم الله الذي يرضخ له العبد المؤمن الذي قبل التكليف من ربه؛ لأن ربه مُؤتمن على كل مصالحه. وما دام الحق قد قال عن شيء إنه رجس، فهو رجس ولا جدال في ذلك.
أقول ذلك لأن بعضًا يظل متصيدًا لأي ثغرة مفتعلة متسائلا: كيف يكون ذلك العمل أو ذلك الشيء من الرجس؟ ونقول: إننا نرضخ لحكم الله تعالى وننفذ ما أمر به، فهو إله مأمون على كل الخلق، وتثبت لنا الأيام دائمًا صدق قول الحق في أن الأشياء التي قال عنها سبحانه إنها رجس، هي من الرجس فعلًا، فحين يقول سبحانه لخلقه: افعلوا كذا، لا نسأله: وما علة ذلك التكليف، ولكننا ننفذ أمر الحق، ونكتشف في أعماقنا فائدة ذلك التكليف.
أما عندما يكلفنا عبد مساوٍ لنا بشيء فلابد أن نسأل: لماذا؟ والعبد المساوى لنا عليه أن يقدم لنا العلة لأي فعل يطلب منا القيام به، ولكننا لا نسأل الله عن علة التكليف لنا؛ لأننا نؤمن بأنه إله حكيم، والأيام ستثبت لنا أن قول الله حق. ومثال على ذلك نجد أن الذي لا يشرب الخمر امتثالًا لنهي الله عن ذلك الفعل، هو إنسان مستقيم السلوك، طاهر القصد، ولا يتأتى منه نشاز في الكون. أما الذي يشرب الخمر فهو معوج السلوك، غير طاهر القصد، ويتأتى منه نشاز في الكون. وقد أثبتت التجربة أن شارب الخمر إنما يصاب بأمراض في الكبد ويعاني من ارتباك في إدارة حياته وكلماته. نحن نقرأ قول الله سبحانه: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282].